بدر شاكر السياب

بدر شاكر السياب
جدتي لـ من أبث بعدك شكواي؟ طواني الأسى وقل معيني أنت يا من فتحت قلبك بالأمس لحبي أوصدت قبرك دوني فقليل على أن اذرف الدمع ويقضى على طول أنيني

الاثنين، فبراير 03، 2014

منزل الاقنان


خرائبُ فانزع الأبوابَ عنها تغدُ أطلالا،

خوالٍ قد تصُكُ الريحُ نافذةً فتُشرِعُها إلى الصّبحِ

تطلُ عليك منها عينُ بومٍ دائبِ النوحِ.

وسُلّمُها المحطّمُ،،

مثل برجٍ داثرٍ، مالا يئنُ إذا


أتتهُ الريح تَصعَدُهُ إلى السطحِ،

**
سفينٌ تعرِك ُالأمواجُ ألواحه

وتملأُ رُحبةَ الباحة

ذوائبُ سدرةٍ غبراء تزحمُها العصافيرُ

تعِدُ خطى الزمان بسقسقاتٍ،

والمناقيرُ كأفواهٍ من الديدان تأكلُ جثّةَ الصمتِ

وتملأُ عالمَ الموتِ بهسهسةِ الرثاء،

فتفزعُ الأشباح.. تحسبُ أنه النورُ

سيشرقُ فهي تمسكُ بالظلال و تهجرُ الساحة

إلى الغرف الدجيّةِ وهي توقظُ ربّةَ البيتِ

لقد طلعَ الصباح و حين يبكي طفلُها الشّبحُ

تهدهدهُ و تنشدُ.. يا خيولَ الموتِ في ألواحهِ

تعالي و احمليني، هذه الصحراء.. لا فرحُ

يَرِفُ بها و لا أمنٌ و لا حبٌ و لا راحه

**

ألا يا منزلَ الأقنان كم من ساعدٍ مفتول

رأيتَ و من خطىً يهتزُ منها صخرُك الهاري

و كم أغنيةٍ خضراء طارت في الضحى المغسولِ

بالشمسِ الخريفيّة

تُحدّثُ عن هوىً عاري

كماءِ الجدول الرقراق كم شوقٍ و أمنّيه

و كم ألمٍ طويت و كم سُقيتَ بمدمعٍ جاري

و كم مهدٍ تهزهز فيك كم موتٍ و ميلادِ

و نارٍ أوقدت في ليلة القرِ الشتائية

يدندن حولها القصّاص يُحكي أن جنّيه

فيرتجفُ الشيوخ و يصمِتُ الأطفال في دَهَشٍ

و إخلادِ

كأن زئيرَ آلاف الأسود يرنّ في وادِ

وقد ضلوا حيارى فيه ثمّ ترِنّ أغنية

أتى قَمَرُ الزمان و دندنَ القصّاص جنيّه

وبؤسُهم المريرُ الجوع و الأحزانُ و السّقمُ

وطفلٌ مات لما جفّ دَرٌ ماتت المعزى

و جاعت أمّهُ فالثدّيُ لا لبنٌ و لا لَحَمُ

سمعتُ صُراخها و الليلُ يَنظرُ نجمُهُ غمزا

و ولولةُ الأبِ المفجوعِ يخنُقُ صوتهُ الألمُ

**

و لو خيّرتُ أبدلتُ الذي ألقى بما ذاقوا

مُمِّضٌّ ما أعاني شَلّ ظهرٌ و انحنت ساقُ

على العكّاز أسعى حين أسعى عاثرَ الخطواتِ مرتجفا

غريبٌ غيرُ نارِ الليلِ ما واساهُ من أحدِ

بلا مالٍ بلا أملٍ يقطّع قلبه أسفا

ألستُ الراكضَ العداءَ في الأمسِ الذي سَلفا

أأمكثُ في ديار الثلج، ثم اموتُ من كمدي

ومن جوعٍ ومن داءٍ وأرزاءِ


أأمكثُ أم أعود إلى بلادي ؟ آه يابلدي

و ما أملُ العليل لديك شَحَ المال ثم رمتهُ بالداء

سهامٌ في يد الأقدار ترمي كلّ من عطفا

على المرضى وشدّ ضلوعَ كل الجائعين بصدره الواهي

و كفكف أدمعَ الباكين يَغسِلُهَا بما و كفا

من العبراتِ في عينيه إلا رحمةُ اللهِ ؟

**

ألا يا منزلَ الأقنان سَقَّتكَ الحيا سُحبُ

تُرَوي قبري الظمآن

تَلثُمُة و تنتَحِبُ.

الأحد، يناير 26، 2014

يوم الطغاة الأخير

إلى الملتقى و انطوى الموعد
و ظل الغد
غد الثائرين القريب
يدا بيد من غمار اللهيب
سنرقى إلى القمة العالية
و شعرك حقل حباه المغيب
أزاهير القانية
نرى الشمس تنأى وراء التلال
و بين الظلال
قد رف مثل الجناح الكسير
على كومة من حطام القيود
على عالم بائد لن يعود
سناها الأخير
تقولين لي هل رأيت النجوم
أأبصرتها قبل هذا المساء
لها مثل هذا السّنا و النّقاء
تقولين لي هل رأيت النجوم
و كم أشرقت قبل هذا المساء
على عالم لطخته الدماء
دماء المساكين و الأبرياء
تقولين لي هل رأيت النجوم
تطل على أرضنا و هي حرّه
لأول مرّة
نعم أمس حين التفتّ إليك
تراءين كالهجس في مقلتيك
و إذ يستضيء المدى بالحريق
فيندكّ سجن و يجلى طريق
و يذكي بأطيافه الدافئة
محيّاك باللهفة الهانئة
تقولين نحن ابتداء الطريق
و نحن الذين اعتصرنا الحياة
من الصّخر تدمى عليه الجباه
و يمتص ريّ الشفاه
من الموت في موحشات السجون
من البؤس من خاويات البطون
لأجيالها الآتية
لنا الكوكب الطالع
و صبح الغد الساطع
وآصاله الزاهيه

النبؤة الزائفة


و كانت تجمع في خاطري

خيوط ضبابيّة قاتمة

نهاياتها في المدى عائمة

و أعراقها السود في ناظري

ودارت خيوط ولفت سواها

فعانقهن أفقا

ووسوسن غيما على الريح ملقى

تجمع من كل صوب، و رعدا و برقا

لقد أغضب الآثمون الإلها

و حق العقاب

يا أفراس الله استبقي

يا خيلا من نار و سحاب

من وقع سنابكك الرعد

و البرق الأزرق في الأفق

و صهيلك صور لظى و عذاب

الوعد لقد أزف الوعد

فيا قبضة الله يا عاصفات

و يا قاصفات و يا صاعقة

ألا زلزلي ما بناه الطغاة

بنيرانك الماحقة

وتلتمّ في خاطري

خيوط السحاب

و تلقى الأفق الدائر

وراء القباب

و أحسست أن الغيوم انتظار

و أن انتظاراً يشد التراب

و أصدى بماذا

بصوت انفجار

على الشطّ واد وزمّ الشرار

و رقعت بالنظرة الشامتة

ثقوب الكوى الصامتة

سيندكّ سور ستنصبّ نار

و كان انتظار

و جّمعت الأرض أطباقها

سيندكّ سور ستنصبّ نار

و عصرت السحب أعراقها

فبلّ الثرى عاصف ممطر.

الجمعة، يناير 24، 2014

الأم و الطفلة الضائعة


قفي لا تغربي ياشمس ما يأتي مع الليل
سوى الموتى فمن ذا يرجع الغائب للأهل
إذا ما سدّت الظلماء
دروبا أثمرت بالبيت بعد تطاول المحل؟
وان اللبل ترجف أكبد الأطفال من أشباحه السوداء
من الشهب اللوامح فيه مما لاذ بالظلّ
من الهمسات و الأصداء
شعاعك مثل خيط للابرنث يشدّه الحب
إلى قلب ابنتي من بات داري من جراحاتي
و آهاتي
مضى أزل من الأعوام آلاف من الأقمار و القلب
يعد خوافق الأنسام يحسب أنجم الليل
يعد حقائب الأطفال يبكي كلما عادوا
من الكتاب و الحقل
و يا مصباح قلبي يا عزائي في الملمات
منى روحي ، ابنتي عودي إليّ فها هو الزاد
و هذا الماء جوعي ؟ هاك من لحمي
طعاما آه عطشى أنت يا أمي
فعبّي من دمي ماء و عودي كلهم عادوا
كأنك برسفون تخطّفتها قبضة الوحش
و كانت أمها الولهى أقل ضنى و أوهاما
من الأم التي لم تدر أين مضيت
في نعش
على جبل؟ بكيت؟ ضحكت؟ هبّ الوحش أم ناما
وحين تموت نار الليل حين يعسعس الوسن
على الأجفان حين يفتش القصّاص في النار
ليلمح من سفينة سندباد ذوائب الصاري
و يخفت صوته لوهن
يجن دمي إليك يحن يعصرني أسى ضار
مضت عشر من السنوات عشرة أدهر سود
مضى أزل من السنوات منذ وقفت في الباب
أنادي لا يرد علي إلا الريح في الغاب
تمزق صيحتي و تعيدها و الدرب مسدود
بما تنفس الظلماء من سمر و أعناب
و أنت كما يذوب النور في دوّامة الليل
كأنك قطرة الطلّ
تشرّبها التراب أكاد من فرق و أوصاب
أسائل كل ما في الليل من شبح و من ظل
أسائل كل ما طفل
أأبصرت ابنتي ؟ أرأيتها ؟ أسمعت ممشاها؟
و حين أسير في الزحمة
أصغّر كل وجه في خيالي كان جفناها
كغمغمة الشروق على الجداول تشرب الظلمة
و كان جبينها و أراك في أبد من الناس
موزّعة فآة لو أراك و أنت ملتمة
و أنت الآن في سحر الشباب عصيره القاسي
يغلغل في عروقك ينهش النهدين و الثغرا
و ينشر حولك العطرا
فيحلم قلبك المسكين بين النور و العتمة
بشيء لو تجسد كان فيه الموت و النشوة
و أذكر أن هذا العالم المنكود تملأ كأسه الشقوة
و فيه الجوع و الآلام فيه الفقر و الداء
أأنت فقيرة تتضرع الأجيال في عينيك فهي فم
يريد الزاد يبحث عنه و الطرقات ظلماء
أحدّق في وجوه السائلات أحالها السقم
و لوّنها الطوى فأراك فيها أبصر الأيدي
تمدّ أحسّ أن يدي يدي معهن تعرض زرقة البرد
على الأبصار و هي كأنهن أدارها صنم
تجّمد في مدى عينيه أدعية و سال دم
فأصرخ في سبيل الله تخنق صوتي الدمعة
بخيط الملح و الماء
و أنت على فمي لوعة
وفي قلبي وضوء شع ثم خبا بلا رجعة
و خلّفني أفتش عنه بين دجى و أصداء.