بدر شاكر السياب

بدر شاكر السياب
جدتي لـ من أبث بعدك شكواي؟ طواني الأسى وقل معيني أنت يا من فتحت قلبك بالأمس لحبي أوصدت قبرك دوني فقليل على أن اذرف الدمع ويقضى على طول أنيني

الأحد، أكتوبر 13، 2013

عيناكِ غابتا نخيلٍ

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر.
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء... كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجداف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما، النّجومْ...
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف،
والموت، والميلاد، والظلام، والضياء؛
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر!
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر...
وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم،
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر...
مطر...
مطر...
مطر...
تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ.
كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام:
بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال
قالوا له: "بعد غدٍ تعودْ.."
لا بدَّ أن تعودْ
وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ
في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
تسفّ من ترابها وتشرب المطر؛
كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباك
ويلعن المياه والقَدَر
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ.
مطر..
مطر..
أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر؟
وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع؟
بلا انتهاء – كالدَّم المراق، كالجياع،
كالحبّ، كالأطفال، كالموتى – هو المطر!
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
سواحلَ العراق بالنجوم والمحار،
كأنها تهمّ بالشروق
فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ.
أَصيح بالخليج: "يا خليجْ
يا واهب اللؤلؤ ، والمحار، والرّدى!"
فيرجعُ الصّدى
كأنّه النشيجْ:
"يا خليج
يا واهب المحار والردى.."
أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ،
حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ.
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تئنّ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاديف وبالقلوع،
عواصف الخليج، والرعود، منشدين:
"مطر...
مطر...
مطر...
وفي العراق جوعْ
وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشّوان والحجر
رحىً تدور في الحقول... حولها بشرْ
مطر...
مطر...
مطر...
وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموعْ
ثم اعتللنا – خوف أن نلامَ – بالمطر...
مطر...
مطر...
ومنذ أنْ كنَّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطل المطر،
وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ.
مطر...
مطر...
مطر...
في كل قطرة من المطر
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ.
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد
أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة!
مطر...
مطر...
مطر...
سيُعشبُ العراق بالمطر..."
أصيح بالخليج: "يا خليج..
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى! "
فيرجع الصدى
كأنَّه النشيج:
"يا خليج
يا واهب المحار والردى."
وينثر الخليج من هِباته الكثارْ،
على الرمال،: رغوه الأُجاجَ، والمحار
وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لجَّة الخليج والقرار،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ
من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى.
وأسمع الصدى
يرنّ في الخليج
"مطر..
مطر..
مطر..
في كلّ قطرة من المطرْ
حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ.
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد
أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة."
ويهطل المطرْ..
عيناكِ غابتا نخيلٍ

السبت، مارس 09، 2013

هدير البحر و الأشواق

هدير البحر يفتل من دمائي من شراييني

حبال سفينة بيضاء ينعس فوقها القمر

و يرعش ظلّها السحر

و من شباكي المفتوح تهمس بي و تأتيني

سماء الصيف خلّف طيفه في صحوها المطر

و نحن نسير و الدنيا تسير و تقرع الأبواب

فتوقظ من رؤاه القلب ذاك عدوك الزمن

تدور رحاه كم ستظلّ تخفق ؟ ها هم الأصحاب

تراب منه تمتلئ الدروب و تشرب الدمن

يودّ القلب لو حطمته لو حطمت خفقاته شفتيك

و الكتفين و الصدرا

و لو ذرّتك من زفراتي الحرى

رياح الوجد و الحرمان و الهفي على عينيك

ليتهما تمران

بدمع أو بإشفاق على صحراء حرماني

لينبت في مداها الزهر ليتهما تمرّان

بما نسج التأمل من غيوم فيهما حيرى

بما نسج التفرد من نجوم فيهما سكرى

على عمري الذي عراه من زهراته الداء

يود القلب لو حطمته لو حطمت خفقاته شفتيك

و الكتفين و الصدرا

ولو عرّاك لو ذرّاك لو أكلتك أشواقي

و لو أصبحت خفقا أو دما فيه أو سرّا

فإن أحببتك الحب الذي أقسى من الموت

و أعنف من لظى البركان و الحب الذي يأتي

إليّ كأنّ نفخ الصور فيه فكل ذر الميتين دم و أحياء

فذاك لأنك النور الذي عرى دجى الأعمى

و أنت صباي عاد إليّ أختا عاد أو أمّا

و أنت حبيبتي أفديك أفدي خفق جفنيك

و ما نفضا من السحب

وأفدي خفق نهديك

على قلبي

سراب

بقايا من القافلة

تنير لها نجمة آفلة

طريق الفناء

وتؤنسها بالغناء

شفاه ظماء

تهاويل مرسومة في السراب

تمزّق عنها النقاب

على نظرة ذاهلة

وشوق يذيب الحدود

*

ظلال على صفحة باردة

تحركها قبضة ماردة

وتدفعها غنوة باكية

إلى الهاوية.

ظلال على سلم من لهيب

رمى في الفراغ الرهيب

مراتبه البالية

وأرخى على الهاوية

قناع الوجود

سنمضي.. ويبقى السراب

وظل الشفاه الظماء

يهوم خلف النقاب

وتمشي الظلال البطاء

على وقع أقدامك العارية

إلى ظلمة الهاوية

وننسى على قمة السلم

هوانا.. فلا تحلمي

بأنا نعود !